فيضانات القصرين: كارثة تتكرر دون حلول
كان الطقس صيفا ودرجة الحرارة معتدلة والأرض اكتست حلة خضراء اين قرر الراعي "الناصر فريضي" اصيل معتمدية حاسي الفريد من ولاية القصرين ان يخرج رفقة قطيعه من الأغنام حتى ترعى العشب الأخضر في محيط منزله يوم 10 ماي 2024. كان هم "الناصر الوحيد –كغيره من مربي الأغنام - ان بشبع جوع اغنامه ويعتني بهم قبل بيعهم خاصة وان عيد الأضحى على الأبواب.... لكن من سوء حضه وبسبب التغيرات المناخية وتداخل الفصول، انقلب الطقس راس على عقب وباغتت الامطار الراعي وقطيعه فجأة، وهطلت بكميات كبيرة جدا في وقت وجيز...
حاول الراعي ان يجمع شتات قطيعه وسارع للعودة الى منزله لكن سيول مياه الامطار سبقته وتجمعت وسط وادي الحطب، وواصل منسوب المياه في الارتفاع وازدادت السيول ضراوة. حاول بكل الطرق ان يصل الى بيته لكن كل محاولته باءت بالفشل، فكل الطرق غير سالكة والسيول تحاصره من كل اتجاه... خلاصه الوحيد كانت الاشجار التي بقي معلقا بها يجابه السيول ساعات طوال الى ان جاءت قوات الحماية المدنية. بعد تواصلت عملية انقاذ الراعي "الناصر الفريضي" وقطيعه ساعات بفضل جهود الحماية المدنية والأهالي، وشعر بسعادة جارفة لأنه وصل الى بر الأمان بعد هول التجربة التي مر بها. ليست هذه المرة الأولى التي يفيض فيها الوادي مخلفا ضحايا من سكان الجهة، لكن حظ الراعي كان أفضل ممن فقدوا حياتهم...
شهدت ولاية القصرين، في الآونة الأخيرة، فيضاناتٍ جارفة تسببت في أضرار مادية جسيمة وخسائر بشرية مأساوية. حيث جرفت السيول العديد من المنازل والطرقات، كما حاصرت عدداً من المواطنين، مما أدى إلى غرق بعضهم وفقدان آخرين.
وتعود هذه الفيضانات إلى هطول كميات كبيرة من الأمطار في وقت قصير، مما أدى إلى امتلاء الأودية وتدفقها بسرعة هائلة. ونذكر من بين هذه الأودية: وادي الواعر، وادي الصابون، وادي بوحية، وادي العترة، وادي الكامور، ووادي قرقور، ووادي خمودة، ووادي البعير.
هذه الأودية عكرت صفو عيش أهالي معتمدية فوسانة وهي معتمدية ريفية بولاية القصرين وأصبحت سببا لعزلتهم وساهمت في شلل حركة العربات وحتى الحالات الاستعجالية يصعب نقلها للعلاج ناهيك عن التلاميذ الذين يحرمون من مزاولة دراستهم التي يجاهدون من أجلها ويقفون وجها لوجه أمام الظروف المادية الصعبة لعائلاتهم ومع ذلك يتوجهون لطلب العلم لكن نزول كميات لا بأس بها من الأمطار يحول دون ذلك.
التهميش والفقر عمق مأساة السكان
بحسب الدراسة التي أنجزها المعهد الوطني للإحصاء سنة 2020 ارتفعت نسبة الفقر بشكل كبير على مستوى الوسط الغربي المتكون من ثلاث ولايات وهم (القيروان والقصرين وسيدي بوزيد). وتعد هذه المناطق حسب نتائج الدراسة أحد أفقر الجهات بمعدل 29.3 بالمائة وترتفع نسب الفقر بمعتمديتي حاسي الفريد (53.3 بالمائة) والعيون (50.1 بالمائة) هي معتمديات بالقصرين تعاني كل اشكال الفقر والخصاصة والتهميش وتأتي في اخر ترتيب ولايات الجمهورية على مستوى التنمية. فاقم من معاناتها الخطر الذي تواجهه بسبب السيول وفيضان الأودية الذي يتسبب في كل مرة بموت أو فقدان أبناء الجهة جراء الإهمال وعدم توفر ابسط مقومات الحماية.
وفق تقديرات المعهد الوطني للإحصاء إلى حدود غرة جانفي 2023, تمسح ولاية القصرين مساحة 8260 كم مربع ويبلغ عدد سكانها 465 ألف و832 وتتميز ولاية القصرين بطابعها الريفي حيث يمثل سكان وسطها الريفي 56.4 % من مجموع السكان خلال سنة 2024 وتحتل الفلاحة مكانة هامة في اقتصادها.
تشمل القصرين 13 عشر معتمدية تعاني تغلبها من تردي الأوضاع المعيشية واهتراء البنية التحتية واغلب التجمعات السكنية دون طرقات معبدة وحتى المسالك الفلاحية غير مهيأة مع غياب تام للمرافق العمومية. عمق من بؤس الجهة الأودية التي أصبحت تشكل مصدر خطر على المتساكنين في كل مرة تهطل فيها الامطار.
حسب مؤشر التنمية لسنة 2021 تتذيل معتمدية حاسي الفريد ترتيب ولايات الجمهورية في مؤشر التنمية الجهوية (المرتبة 264 وطنيا و13 جهويا) وتمتد على مساحة تبلغ 1028.4و يقطنها 21204 ساكن. يتسبب وادي الهشيم ووادي وواد الفكة في عزلة متساكني هذه العمادة عن مركز المعتمدية خاصة في فصل الشتاء إضافة إلى تعطل الدروس بالمدرسة الابتدائية بالفكة..
بينما معتمدية فريانة والتي يبلغ عدد سكانها 56008 وتمتد مساحتها 912 كم مربع تعاني الامرين بسبب وادي الصابون ووادي بوحية الذي يشق المنطقة بالكامل ويهدد حياة الأهالي في فصل الشتاء.
بدورها فوسانة تعاني من غياب المشاريع التنموية من جهة، ومخاطر الاودية الغير مهيأة على غرار وادي الحطب والوادي الأحمر ووادي قرقور ووادي الرياحي ووادي الجديد من جهة أخرى. وليس بعيدا على فوسانة يقع وادي حيدرة الشهير في معتمدية حيدرة الذي يغلق كل المنافذ إلى المدينة كلما تهاطلت الأمطار.
يقول محمد وهو شاب أصيل معتمدية حاسي الفريد عاطل عن العمل ومهتم بالمجتمع المدني" تعاني المنطقة من مشاكل تنموية كثيرة ومع ذلك مازال أهلها يحاربون من أجل البقاء، القصرين منطقة منكوبة بسبب الأودية التي تتفاوت خطورتها من منطقة إلى أخرى رغم بعضها تمت برمجة مشاريع لتهيئتها لكن لم تنطلق الأشغال منذ سنين بسبب التقصير والإهمال، كلما هطلت الامطار تتحول حياتنا الى كابوس مخيف".
وليس ببعيد عن تاريخ 10 ماي وبعد أيام قليلة من تاريخ عيد الفطر من هذه السنة توفي أستاذ تربية مدنية بعد أن جرفته مياه وادي الصابون في معتمدية فوسانة تاركا ورائه عائلة ملتاعة كان هو عائلها الوحيد. وهو فرد من العائلة الموسعة للنائب بمجلس نواب الشعب عن ولاية القصرين "حاتم لباوي" الذي حذر من خطورة التطبيع مع مثل هذه الكارثة وشدد على ضرورة ان تطرح السلطة الجهوية في برامج عملها واستراتيجيتها حلولا لما سماها نقاط الموت مذكرا بابن عمه الذي راح ضحية سيلان وادي الحطب بعد أن غرق فيه وعثروا على جثته بعد أيام. وأضاف اللباوي أن الحلول موجودة والعالم كله يستعملها في مثل هذه الوضعيات لكن لم تطرح للنقاش في القصرين.
ورغم تكرار هذه الكوارث، إلا أنّه لم يتم اتخاذ أيّ خطوات جادة لمنع حدوثها. فما زالت هذه الأودية تفتقر إلى أبسط وسائل التهيئة، مثل بناء الجسور أو حتى تركيب أجهزة إنذار مبكر. ويطالب الأهالي، للمرة الألف، سلطة الإشراف بإيجاد حلول جذرية لمعضلة "نقاط الموت" هذه، والتي تتحول مع كلّ هطول للأمطار إلى فخاخٍ مميتة.
إنّ تكرار هذه الكوارث يطرح العديد من التساؤلات حول جدوى التحذيرات والتنبيهات التي تصدرها السلطات، دون اتخاذ أيّ إجراءات ملموسة على أرض الواقع. فهل تنتظر السلطات المزيد من الضحايا قبل أن تتحرك لإنقاذ الأرواح والممتلكات؟
خطوات لإنقاذ سكان المناطق المحاذية للأودية في ولاية القصرين
على المدى القصير يمكن تفعيل أنظمة الإنذار المبكر مثل تركيب أجهزة إنذار مبكر في المناطق المعرضة للفيضانات، لتنبيه السكان عند ارتفاع منسوب المياه في الأودية. بالإضافة الى تنظيم حملات توعية لنشر الوعي بين السكان حول مخاطر الفيضانات وطرق السلامة خلال حدوثها، مثل كيفية إخلاء المنازل والابتعاد عن مجاري السيول، وتجهيز وتوفير مراكز إيواء آمنة للسكان الذين قد يُضطرون إلى مغادرة منازلهم بسبب الفيضانات، وتدريب فرق الإنقاذ على التعامل مع حالات الفيضانات، وتزويدهم بالمعدات اللازمة لعمليات الإنقاذ والإغاثة.
اما على المدى الطويل فيجب تنفيذ مشاريع لتحسين البنية التحتية في المناطق المعرضة للفيضانات، مثل بناء جدران واقية من السيول وتوسيع مجاري الأودية. وزراعة الأشجار على طول مجاري الأودية للمساعدة في امتصاص مياه الأمطار ومنع انجراف التربة.
" يجب نشر الوعي بين السكان حول مخاطر البناء في المناطق المعرضة للفيضانات، وتشجيعهم على البناء في مناطق مرتفعة وآمنة، وتقديم دعم مالي للسكان المتضررين من الفيضانات لمساعدتهم على إعادة بناء منازلهم وإصلاح الأضرار".
بالإضافة إلى ذلك، من المهم تعزيز التنسيق بين مختلف الجهات المعنية: مثل السلطات المحلية والإقليمية والوطنية، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء في مجال إدارة الكوارث، لضمان اتخاذ خطوات فعالة لمنع حدوث الفيضانات والتعامل معها مع ضرورة إجراء دراسات علمية لتحديد المناطق الأكثر عرضة للفيضانات وتحديد أفضل السبل لمنع حدوثها. وتخصيص ميزانية كافية لتنفيذ مشاريع الوقاية من الفيضانات والاستعداد لها.
إنّ اتخاذ هذه الخطوات من شأنه أن يساهم بشكل كبير في حماية أرواح سكان المناطق المحاذية للأودية في ولاية القصرين من مخاطر الفيضانات.
- 42 vues