Aller au contenu principal

رغم الجفاف.. شباب سليانة يرفضون الهجرة ويكافحون التغيرات المناخية

عندما التقيت ريم لأول مرة في شهر فيفري 2024، كانت تتمنى أن تعود للعيش في ولاية سليانة أين كبرت وترعرت، فهي لم تتقبل فكرة تركها لأرضها والانتقال للعيش في مدينة قصر هلال من ولاية المنستير، للعمل في إحدى مصانع الخياطة كعاملة نظافة.

بعد هذا اللقاء بنحو شهرين تلقيت مكالمة هاتفية من ريم (25 عامًا)، متزوجة وأم لطفل، تخبرني فيها أنها قررت العودة إلى قريتها لخدمة حقلها الصغير الذي يحتوي على بعض أشجار الزيتون واللوز، هربًا من الاستغلال الاقتصادي الذي تعرضت له خلال عملها في التنظيف.

وعلى الرغم من تواصل انحباس الأمطار بمنطقة الجميلات من ولاية سليانة وتأثر كل القرى المجاورة، قررت ريم العودة إلى قريتها تلك والبدء من جديد بعد أن غادرتها سابقًا هربًا من الجفاف الذي نتج عنه نقص مخزون المياه وتراجع المحاصيل الزراعية.

وفي حديثها مع "تواصل"، تقول ريم: "بداية سنة 2023 قررت الهجرة نحو ولاية المنستير وبعد بحث طويل وجدت عملاً في إحدى مصانع الخياطة بأجرة شهرية تقدر بـ 400 دينارًا".

تضيف: "وجدت وظيفة وتمكنت من تأجير منزل صغير لكنني لم أكن سعيدة بوضعيتي، خصوصًا وأنني كانت أعمل لساعات طويلة مقابل أجر زهيد لا يوفر لي كل احتياجاتي أنا وابني وزوجي الذي كان عاطلاً عن العمل حينها".

وتؤكد ريم أنّها عملت لأشهر طويلة كعاملة نظافة لكنها قررت بعد ذلك العودة إلى مدينتها وخدمة أرضها بكل ما أوتيت من جهد، مشيرة إلى أنها تأمل أن تتلقى هي وعشرات النساء اللاتي تضررن من الجفاف دعمًا من الدولة. 

مثله مثل ريم، يسعى الشاب سفيان نصر إلى إحياء أرضه التي ورثها عن والده والتي بدأت تدبّ فيها مظاهر الموت جراء تواصل موجات الجفاف، عبر غراسة أصناف جديدة من الأشجار المقاومة للعطش.

اختار سفيان (33 عامًا)، متزوج وأب لـ3 أطفال، عدم الهجرة وقرر غراسة بعض الأشجار وزراعة الأرض التي يملكها والتي تقع بالقرب من عين جبلية طبيعية بدأت هي الأخرى تجفّ مع بداية ارتفاع درجات الحرارة. 

جفاف السدود

تعاني ولاية سليانة من جفاف حاد جراء انحباس الأمطار لسنوات طويلة

ويقول سفيان في حديثه مع في "تواصل": "رغم الجفاف مازلت متمسك بالبقاء في أرضي وغراستها عوض الهجرة، لا أريد ترك قريتي التي كانت مليئة بالسكان وصياح الأطفال".

يواصل حديثه مفسرًا: "كانت القرية جميلة بسكانها غير أنهم هجروها واحدًا تلو الآخر هربًا من الفقر ونقص مواطن الشغل، وزاد نسق الهجرة خصوصًا في السنوات الأخيرة مع اشتداد موجة الجفاف".

كما يؤكد سفيان أنه تمكن من غراسة أشجار حب الملوك والمشمش واللوز ويكافح يوميًا لتوفير المياه من أجل أن تكبر هذه الأشجار وتُثمر كي تكون في المستقبل مصدر رزق له ولعائلته.

لا يخفِ سفيان مخاوفه من المستقبل فهو يرى أنّ موجة الجفاف لازالت متواصلة وأن مخزون المياه بدأ في التراجع بشكل لافت في قريته وكل القرى المجاورة التي يعتمد سكانها على الفلاحة وتربية الماشية، إضافة إلى غياب السلط الجهوية في دعم العائلات المتضررة من أضرار التغيرات المناخية، وفقه.

وأوضح أنه حاول مرارًا الحصول على قرضٍ لتمويل مشروعه وحفر بئر لزراعة أرضه والحفاظ على مصدر رزقه، غير أنه اصطدم بعديد الشروط من بينها أن تكون المنطقة سقوية.

سليانة.. ولاية طاردة لأبنائها

ريم وسفيان ليسوا وحدهم من وجدوا أنفسهم بين مطرقة التغيرات المناخية وسندان الهجرة، بل هناك الآلاف من الشباب الذين يكافحون لوحدهم لمواجهة مخاطر الجفاف وتراجع الإنتاج وغياب مواطن الشغل.

ويُعرف على ولاية سليانة أنها ولاية طاردة لأبنائها حيث يغادرها أبناؤها نحو تونس الكبرى والمدن الساحلية للبحث عن حياة أفضل، بينما تظهر الأرقام الرسمية ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وغياب مواطن الشغل، حيث قدرت نسبة البطالة فيها بـ 19.5% خلال سنة 2019، بينما بلغت نسبة الأمية 29.7%.

ونتج عن غياب التنمية ونقص مواطن الشغل وتواصل موجات الجفاف صافي هجرة سلبيّ قُدر بـ 9043 نسمة خلال الفترة الممتدة بين 2009 و2014، وفق دراسة صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء.

وعلى الرغم من تمسك البعض بالبقاء في ولايتهم وخدمة أرضهم أو بعث مشاريع توفر لهم لقمة العيش الكريم، فإنّ الآلاف يختارون المغادرة للعمل والدراسة في هجرة داخلية فاقمتها التغيرات المناخية والأزمات البيئية.

وفي تقرير له صدر حديثًا، وضع صندوق النقد الدولي تونس من ضمن مجموعة الدول المهدّدة بتنامي الهجرة الداخلية لأسباب مناخية وبيئية، مؤكدًا من أنّ التغير المناخي هو أحد أبرز عوامل الهجرة التي تزداد قوة يومًا بعد يوم.

وجاء في ذات التقرير، أنّ التغير المناخي الذي يشهده العالم قد يجبر 216 مليون شخص في ست من مناطق العالم على الارتحال في داخل حدود بلدانهم بحلول عام 2050، من بينها تونس. 

ووفق ذات التغيير، فإنّ المناخ يُعد محركًا قويًا للهجرة الداخلية بسبب آثاره على سبل كسب عيش السكان وفقدان إمكانية العيش في الأماكن المعرضة بشدة إلى المخاطر، مع الإشارة إلى أن ذلك قد يمس 19 مليون مواطن في دول شمال أفريقيا.

سليانة.. غياب التنمية والجفاف يعمقان معاناة السكان 

تؤكد نبيهة صادق، صحفية وناشطة في المجتمع المدني بسليانة، أنّ الولاية تعاني منذ سنوات من نقص المشاريع التنموية وتواصل موجات الجفاف، ما تسبب في تعميق معاناة السكان.

تضيف صادق في حديثها مع "تواصل"، أنّ التغيرات المناخية فاقمت أزمة ولاية سليانة، حيث باتت الأراضي الزراعية الشاسعة جافة ما تسبب في تضرر الفلاحين وتضرر القرى الريفية في الولاية. 

وأوضحت أن من أكثر المعتمديات التي تعاني من الجفاف هي الروحية والعمادات التابعة لها، مؤكدة أنّ السكان هناك يعانون من العطش ونقص الماء الصالح للشرب كما خسروا موارد رزقهم خصوصًا وأنهم يعتمدون أساسًا على الفلاحة وتربية الماشية للعيش.

سليانة.. غياب التنمية والجفاف يعمقان معاناة السكان

يعاني سكان ولاية سليانة من نقص الماء الصالح للشرب

وأوضحت نبيهة صادق، أنّ الجفاف أدى إلى التخلي عن الزراعات الفصلية والقرعيات واقتصار آلاف الفلاحين على الزراعات البعلية ما تسبب في تراجع الإنتاج الفلاحي بالولاية.

في ذات السياق، أشارت صادق إلى أنّ عديد المناطق بالجهة باتت تعاني من انجراف التربة والتسحر، جراء تراجع التشجير وفقدان آلاف الهكتارات من أشجار الغابات بسبب الحرائق، إلى جانب تضرر النسيج الغابي وسط غياب الرقابة.

وأكدت أنّ غياب المشاريع التنموية بالجهة دفع أيضًا بالآلاف إلى الهجرة نحو المدن الكبرى على غرار تون العاصمة والمدن الساحلية للعمل في المصانع والبناء، مؤكدة أن ولاية سليانة تفقد سنويًا الآلاف من أبنائها.

سليانة.. تأثر قطاع الزراعة جراء تواصل انحباس الأمطار

يؤكد خبراء ومراقبون، أنّ ولاية سليانة تعاني من شحّ فادح في الموارد المائية وتراجع في مخزون السدود وذلك بعد نحو 6 سنوات من موجة جفاف متواصلة أضرت بالمائدة المائية والمحاصيل الزراعية، وتسببت في نزوح المئات من المزارعين نحو المدن والمناطق الحضرية بحثًا عن موارد رزق جديدة. 

ويطغى المناخ شبه الجاف على ولاية سليانة بنسبة %39.6، مقابل 2.6% للمناخ شبه الرطب بشمال الولاية و3.8% للمناخ الجاف بجنوب الولاية، وتحتوي على 3 سدود كبرى و43 سدًا جبليًا و80 بحيرة جبلية، في حين تمثل الفلاحة النشاط الأساسي بالولاية.

عدد السدود والبحيرات الجبلية في ولاية سليانة

ويقرّ عضو المكتب التنفيذي بالاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بسليانة رؤوف حسني، بتأثر قطاع الفلاحة في ولاية سليانة بتواصل انحباس الأمطار جراء التغيرات المناخية.

ووفق حسني، فإن التغيرات المناخية أثرت بشكل لافت على مساحات الزراعات الكبرى بالولاية، حيث تراجعت المساحة المزروعة من 200 ألف هكتار إلى نحو 160 ألف هكتار، كما تراجع إنتاج حب الملوك من 30 إلى 40%.

ولم يسلم قطاع تربية الماشية بدوره من أثر التغيرات المناخية، حيث قطاع تربية الماشية المعدة للبيع في عيد الأضحى من نحو 120 ألف إلى 80 ألف، وذلك بسبب تضرر النسيج الأخضر بالحرائق وغلاء الأعلاف، إضافة إلى تراجع قطيع الأبقار.

الجفاف

تراجع قطيع الماشية في ولاية سليانة بسبب الجفاف

وعلى الرغم من تعمق أثار التغيرات المناخية في ولاية سليانة التي تعاني من الجفاف المتواصل وموجات حرائق في غاباتها وتراجع مخزون المياه بالجهة، فإن السلط الجهوية لا تتعامل مع هذه المخاطر بجدية، وفق ما أكده رؤوف حسني.

يضيف حسني قائلاً: "للأسف لا يوجد هناك خطط واضحة للتعامل بجدية مع المخاطر الناجمة عن التغيرات المناخية التي تراكمت على امتداد سنوات طويلة".

ويدعو حسني إلى ضرورة التسريع في إنجاز سدود جديدة لتخزين المياه واستكمال بناء سدي آركو ووادي وزافة، خصوصًا وأنّ سد الأخماس انتهت صلاحيته بينما تراجعت طاقة استيعات سد سليانة من 70 مليون متر مكعب إلى نحو 25 مليون متر مكعب بسبب الترسبات. 

في المقابل، يقرّ حسني بأن ولاية سليانة تعتبر من أكثر الولايات "الطاردة" لأبنائها، حيث تهجرها سنويًا آلاف العائلات هربًا من الفقر والخصاصة وموجات الجفاف التي دفعت بسكان القرى الريفية الفقيرة إلى الهجرة نحو المدن الأخرى بحثًا عن واقع أفضل. 

وحتى شهر ماي 2024، أظهرت الأرقام الرسمية أنّ الأمطار الذي شهدتها ولاية سليانة منذ بداية العام الجاري ضعيفة إلى متوسطة أن أثرها على السدود ضعيف وغير ملاحظ.

Fichier audio

وفي تصريح له بتاريخ 10 ماي 2024، أفاد رئيس قسم المياه والتجهيز الريفي بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بسليانة علي السليمي، أن تأثير الأمطار الأخيرة على زراعة الحبوب في الولاية بقي محدودًا جدًا، لافتًا إلى أنّها ستؤثر بشكل إيجابي على غراسات الزيتون والزراعات المتأخرة، وفقه.

وأشار إلى وجود 3 سدود كبرى في ولاية سليانة وهم، سد سليانة وسد الأخماس وسد الرميل، مؤكدًا أنّ نسبة امتلاء سد سليانة بلغ 22 بالمائة (6.300 مليون متر مكعب) من مجموع 29 مليون متر مكعب، فيما بلغت كمية الماء المستعملة في ري الحبوب والأشجار خلال شهر أفريل المنقضي 1.2 مليون متر مكعب.

وأضاف أن نسبة امتلاء سد الأخماس بلغت 8.7 بالمائة (0.521 مليون متر مكعب) من مجموع 6 مليون متر مكعب، وبلغت كمية الماء المستعملة في ري الحبوب والأشجار خلال شهر أفريل الفائت 200 ألف متر مكعب، في حين بلغت نسبة امتلاء سد الرميل 40.5 بالمائة (0.730 مليون متر مكعب) من مجموع 1.8 مليون متر مكعب.

بات واضحًا إذًا أنّ الأثار السلبية للتغيرات المناخية أصبحت أشدّ وطأة على كامل معتمديات ولاية سليانة، فهي تسببت بجفاف العيون والآبار والبحيرات وتراجع مخزون السدود وجفاف الأراضي وهجرة السكان، وهو ما يعني أنّ الوقت قد حان لوضع استراتيجية عاجلة وواضحة لمكافحة هذه الأثار والحدّ من سلبياتها.

الصحفية زينة البكري.

Articles en relation