تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مربع المرسوم 54 يتوسع وينال من حريات التّعبير والرأي في تونس

مع اقتراب تاريخ الثالث عشر من سبتمبر، تمضي سنتان اثنتان على صدور المرسوم 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية الذي يحتوي على الفصل 24 الذي يجرّم حرية التعبير وتصل العقوبات فيه إلى السجن لعشر سنوات مع خطايا مالية قد تصل 50 ألف دينار.

عامان طويلان يمضيان، يقول عدد ممن مروا بمحاكمات تتعلق بقضايا تهم حرية التعبير والرأي من صحافيين ومحامين ومدنيين إن "أسوار المدينة تضيق على ساكنيها بسبب فصلٍ مسكون بكلمات فضفاضة تتيح للجهاز القضائي ملاحقة من يخرج عن مربع الطاعة ويخرس الألسن ويلجم الأفواه بعدم الانتقاد أو إعلان السير في غير النهج المسموح به من السلطة"..

هكذا يعلق محامون وصحافيون على القرار، سلسلة إيقافات واعتقالات بحق سياسيين وصحافيين ونشطاء ومدنيين على معنى المرسوم الذي يزيد من حالة القلق بشأن الحريات عامة وحرية التعبير على وجه الخصوص في بلد لم يبقى من محصلاته ومكتسباته من ثورة جانفي 2011 إلا هذه الحرية التي تمضي إلى الأفول.

هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وفي آخر بيان مشترك لهما عبرتا، الخميس 30 ماي 2024، عن تنديدهما "بتصعيد قمع الدولة للإعلام وحرية التعبير"، معتبرتين أن الأمر بمثابة "دق المسار الأخير في نعش الفضاء المدني في تونس؛ بعد موجة إيقافات وقرارات بالسجن طالت إعلاميين ومحامين، قبيل الانتخابات الرئاسية التونسية الأولى المقررة في خريف العام الحالي إن كتب للأمر الحدوث ولم يعلق الموعد لاحقًا، ومنذ صعود الرئيس قيس سعيّد لواجهة السلطة في 25 جويلية 2021.

المسار السياسي الضبابي والمتعثر بالبلد يرافقه تصاعد بالحد من الحريات وتزايد الانتهاكات والملاحقات بحق السياسيين والإعلاميين والمدنيين خارج إطار التعدد والنقاش المفتوح.

"الخطر بــــات محدقًا بالجميع"..

يقول زياد دبّار رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التّونسيين في حديث لـ"تــــواصل"، إن "طريقة إصدار القانون عدد 54 وتطبيق فصلة 24 في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير بات سيفًا مسلطًا على رقاب الصحفيات والصحفيين والمؤسسات الإعلامية بالبلد بشكل عام"، وأضاف "الخطر اليوم بات محدقًا بالجميع وكأن بالسلطة تفرض أمرًا واقعًا بمرسوم يعوض قانون الصحافة الذي من المفروض أن يكون القانون الذي يحاسب العمل الصحفي في تونس".

وأشار دبّار  إلى أن "السلطة وعلى رأسها ريس الجمهورية تتحدث شفهيًا عن ضمانها وضمان الدستور التونسي لحرية الرأي والتعبير، ليكون الفصل 24 من المرسوم 54 ناسفًا لكل ضمانات هذه الحريات التي يقرها الدستور وتنص عليها الاتفاقيات الدولية والتي ترسخ الحس الحر الذي كان مكسبًا للثورة بامتياز".

واعتبر بأن "المشهد الإعلامي بات عبثيًا مع استمرار تطبيق الفصل سيء الذكر الذي جاء لمكافحة الجرائم الإلكترونية كالقرصنة والجرائم السيبرانية بالفضاء الرقمي قبل أن يُوجه للتضييق على وسائل الإعلام بملاحقة الصحافيين والإعلاميين قامعًا للآراء والأفكار، في وقت تتشدق فيه السلطة القائمة بالحريات".

وأكد بقوله إن "تمشي السلطة السياسية بتطبيق هذا الفصل سينسف بشكل تام مكتسب حرية الرأي والتعبير في تونس إن استمر الوضع على ما هو عليه، وهو بصدد بث حالة من التخويف والترغيب ووضع مناخ الحرية كمنافٍ للنظام وهو ما سيمس ويؤذي كل التونسيين، لا فقط الصحافيين والإعلاميين".

Fichier vidéo

من جهته شدد عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين كريم وناس في تصريح لـ"تــــواصل" إن "المرسوم 54 الغاية منه الحماية من الجرائم السيبرانية قبل أن يتحول إلى فصل لسلسلة ملاحقات بحق الصحفيين تجاوزت 40 قضية ما خلق حالة من الخوف الترهيب في المجال الإعلامي".

وتابع بقوله "كل صوت معارض أو منتقد للمسار السياسي في تونس اليوم بات معنيًا بهذه الملاحقات التي تطال عشرات المدنيين الذين قد لا تكون قضاياهم غير معروفة لدى المجتمع لكنها جزء من سلسلة إيقافات لإخراس كل صوت حر ومختلف عما ترغب به السلطة القائمة".

Fichier vidéo

المحامون.. "السلطة ماضية بالصّدام"..

وفي حديث لـ"تــــواصل" قال المحامي كريم المرزوقي إن "اقتحام دار المحامي في مناسبتين وفي سابقة لم تحصل حتى قبل الثورة وزمن الاستبداد يتم إيقاف محاميين تونسيين"، وأضاف "السلطة اليوم وعلى مقاس الفصل 54 وفصله 24 تستبيح استهداف حرية الرأي والتعبير وترفض الكشف عما تريده حيث يتردى الوضع الحقوقي وتستنزف الحريات رغم أن التحركات والوقفات الاحتجاجية الرافضة لمواصلة العمل بهذا المرسوم".

وأكد بأن "السلطة ماضية في الصدام والمواجهة مع كل صوت حر".

ملف الصوت

من جهته قال عميد الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين في تصريح لإذاعة "ديوان"؛ "علاقتنا بنقابة الصحفيين التونسيين أخوية وتاريخية، من مصلحة بلدنا والقطاعين أن ندافع عن حرية التعبير والرأي وكل من يتسبب المرسوم 54 والفصل 24 منه في ملاحقة منظورينا الذي يجب أن يستخدم بملاحقة الجرائم السيبرانية لا أن يكون عقابًا مُنزلًا على الصحافيين والمحامين وفي احترام لمبدأ التناصف لا أن تستغله النيابة العمومية في غير محله وأن يصبح التعبير عن الرأي في إطار القانون جناية وتسريعًا بتنفيذ العقوبة السجنية التي باتت خطيرة على السلم الاجتماعي وعلى ثقافة التعدد والاختلاف في إطار القانون".

ملف الصوت

وسط هذا الزخم من القلق من تصاعد المضايقات والملاحقات بحق الصحافيين ومنتقدي النظام القائم تحرك الشارع التونسي وسجل احتجاجات رافضة للتوقيفات التي طالت مؤخرًا الإعلاميين مراد الزغيدي وبرهان بسيّس وقبلهما العشرات الآخرين، والمحامية سنية الدهماني في قضيتين اثنتين قبل أن تضاف لهما مؤخرًا قضيتان أخريان، وزميلها مهدي زقروبة بعد اقتحامين متتالين  خلال 48 ساعة خلال شهر ماي الماضي لدار المحامي من فرقة أمنية من الملثمين، قبل يودع الأربعة السجن بأحكام ابتدائية متفاوتة بين الثلاثة أشهر والسنة سجنًا نافذة بتهم تتعلق بـ"تصريحات منتقدة للسلطة" أو "استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام"، وهو نص الفصل 24 من المرسوم 54.

خلال الفترة الممتدة بين شهر سبتمبر 2022 و موفى شهر ماي 2024 تمت محاكمة أكثر من 60 تونسية وتونسيًا؛ بينهم سياسيون ومحامون وصحافيين ومعارضون للرئيس قيس سعيّد، على أساس نص المرسوم 54 وفصله 24 وفق ما أكدته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي أدانت وتدين "تجريم التعبير في الفضاء الرقمي وملاحقة الصحافيين والإعلاميين على خلفيات محتويات إعلامية ناقدة للسياسات العامة".

موجة التوقيفات هذه التي استنكرتها منظمات صحافية وحقوقية دولية رافقها تنديد من دول بعينها عبر بيانات رسمية بينها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا التي عبرت جميعها عن "قلقها إزاء موجة الملاحقات والتوقيفات"، الأمر الذي اعتبره الرئيس قيس سعيّد "تدخلًا سافرًا في الشؤون الداخلية للبلاد"، حيث كلف وزير الخارجية باستدعاء ممثلي هذه الدول للتعبير عن رفض تونس لهذه التصريحات.

 

"الرقابة الذاتية.. أخطر انحراف قد يصيب الصحافة والإعلام"..

بخصوص ما يحصل بتونس يقول الدكتور صادق الحمامي الأستاذ والباحث في علوم الميديا والاتصال خلال حضوره ببرنامج "ميدي شو" بإذاعة موزاييك إن "الإعلام العمومي والإعلام الخاص يجب أن يناقشا ما يحصل في الفضاء العام، والإعلام العمومي لا يفعل هذا.. وباعتقادي أن إصلاح الإعلام هو ما سيحل الجدل الحاصل بين الصحافة والسلطة"..

وأضاف "الخوف لا ينزل من السماء، وبات يقوّض المنهجية الصحفية القائمة على السعي إلى الحقيقة وتشكيل الرأي العام انطلاقًا من المعلومة.. الرأي العام يتشكل في سياقات محددة وتأتي من الإعلام في مرحلة ما ومن الاتصال العمومي أو الحكومي في مراحل أخرى".

ويرى الحمامي بأن "ما يحصل من ملاحقات على مُسمى الفصل 54 والفصل 24 منه يقود إلى رقابة ذاتية من الصحافيين قد يكون أخطر انحراف يمكن أن يصيب الصحافة والإعلام اللذين يصبح فيهما النقد مفرطًا فيه لمُشكِلٍ للرأي العام إلى جهات مجهولة تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي التي تنشد الحقد والغضب وتشتغل بالمشاعر، والتصدي للتضليل له آلياته ووسائله والمرسوم الحالي لا يقدم هذه الخدمة بل يواجه الرأي العام ويعاقب الصحافيين وكل من يخوض رأي عام بات مهددًا بالخطر، وهنا يجب تغيير وتعديل هذا المرسوم حتى لا تُعطل الخدمة الصحافية".

ملف الصوت

تعطل المبادرة التشريعية لتعديل المرسوم بمجلس نواب الشعب

وفي تصريحه لإذاعة "ديوان" قال النائب بمجلس نواب الشعب ياسين مامي إنه "تم تقديم مبادرة من 35 نائبًا في إطار دورهم التشريعي مشروع قانون تعديل للمرسوم 54 منذ شهر فيفري بداية العام الحالي والنظام الداخلي يشير إلى وجوب تمريره إلى اللجنة المعنية في ظرف 15 يومًا وهو ما لم يحصل حتى اليوم للتصويت عليه".

ويضيف مامي بقوله "كنواب قمنا بدورنا بهدف تنقية المناخ السياسي، ونحن لسنا في قطيعة مع السياق الوطني، وسط انحرافات في تطبيق القانون المتعلق بالتصدي للجرائم السيبرانية الذي يجب أن يفرق بين حرية التعبير والرأي من جهة، والثلب والشتم على شبكات التواصل الاجتماعية من جهة ثانية، والقانون هنا يجب أن يكون أعلى درجة من المراسيم".

وطالب بـ"استعجال النظر والتصويت على مشروع قانون تعديل المرسوم التي يتوجب على اللجنة المعنية بالحقوق والحريات عرضها على التصويت في أقرب وقت خاصة أن المطلب الأخير كان بطلب من 57 نائبًا والعدد في ازدياد ولا يجب التعسف على إرادة النواب".

ملف الصوت

جدلٌ يتوسع ولا تقدم يذكر حتى الآن بخصوص تعديل المرسوم أو إخراج حريات التعبير والرأي من سياقها والتصدي لها بمرسوم لا يتماشى مع العمل الصحافي أو التعبير عن الرأي، بانتظار ما ستحمله الفترة المقبلة من تطورات قد تزيد الطين بلةً وهذا ما لا نتمناه أو أن يُحل الإشكال الكبير ولا تمضي السلطة بإنفاذ القانون والمعاقبة بحق الصحافيين والإعلاميين على غير القوانين الخاصة بهم وأن يدرجوا في سلة بيضٍ واحدة مع قضايا الجرائم السيبرانية والإلكترونية التي لم ولن تنتهي كما هو الأمر بكل دول العالم.

 

 بقلم الصحفي: علاء حمّودي.

Articles en relation